يرتبط تاريخ قضاء التعقيب بتاريخ النظام التونسي وقد تأثر في نشأته و تطوره بالمراحل والأحداث التي شهدها هذا النظام. و إذا اقترن ظهور محكمة التعقيب على هيئتها العصرية بحصول البلاد على استقلالها فإن قضاء التعقيب كان له قبل ذلك بكثير أثر واضح في عدة مؤسسات عرفتها العهود السابقة.
و يمكن تقسيم الحديث عن نشأة قضاء التعقيب و تطوره عبر العصور الى ثلاث محاور:
قبل أن نستجلي ملامح قضاء التعقيب الذي ظهرت بوادره في عهد الأمان يجدر التعرض بإيجاز إلى المؤسسات القضائية التي تكونت بالبلاد خلال الفترة السابقة لانتصاب الحماية.
تميزت هذه المرحلة بسيطرة الباي على جميع الأوضاع وانفراده بكافة السلط التشريعية والقضائية والتنفيذية، هذا وإن شكل ظهور بعض المؤسسات القضائية تحديدا من نظر الباي إلا أن هذا الأخير استبقى لنفسه حق إصدار « المعاريض » ليحد من نفوذ تلك المؤسسات.
و يمكن حصر المؤسسات القضائية في المحاكم التالية:
المحاكم الشرعية: تكونت في غضون سنة 1856 و كانت تنظر في الأحوال الشخصية و الاستحقاق وفق المذهبين المالكي و الحنفي و يستند القاضي الشرعي في أحكامه الى الشريعة الإسلامية و يعتمد المشهور من الآراء في مذهبه و يستعين بآراء المفتين من ذوي كفاءة العلمية والفقهية.
محكمة الوزارة: تمثلت وظيفتها في تحضير القضايا للحكم فيها من طرف الباي ، بها قسمان أحدهما مدني و الآخر جزائي لإنشاء لوائح الأحكام (المعاريض).
محكمة الدريبة: تكونت بالتوازي مع محكمة الوزارة و اعتبرتها بعض المراجع « النواة الأولى للقضاء العدلي بتونس » يرأسها قاضي يطلق عليه اسم
« فريك » و مرجع نظرها محدد بالجنح التي لا تتجاوز عقوبتها ستة أشهر.
مجالس العمال: انتشرت بمختلف الجهات و كان العامل « القايد » يقضي في المخالفات.
محكمة الأحبار: تنظر في الحالة الشخصية لليهود و يستمد الحبر الأكبر أحكامه من الشريعة الموسوية و ما اشتهر من آراء الأحبار القدامى و الأحكام التي تصدرها هذه المحكمة نهائية.
المحاكم القنصلية: تتعهد بالنظر في قضايا رعايا الدول المتمتعة بامتيازات قنصلية و لما انتصبت الحماية استوعبتها المحاكم الفرنسية.
هذا وقد إختلف الوضع بصدور قانون عهد الأمان وما ترتب عنه من إصلاحات عززت جهاز القضاء
تحت تأثير الضغوط الخارجية(فرنسا و بريطانيا) و إلحاح رجال الإصلاح في الداخل صدر ميثاق عهد الأمان في 10 سبتمبر 1857و تولد عنه جو من الانفتاح و الإصلاح تدعم بصدور دستور 26 أفريل 1861 الذي يعتبر أول قانون عني بتنظيم القضاء و إنشاء مؤسساته، و تكونت على ضوئه عدة مجالس قضائية تتمثل في:
و في أعلى الهرم القضائي يوجد المجلس الأكبر المتعدد الاختصاصات (إدارية- تشريعية- سياسية- قضائية).
المجلس الأكبر:
يتركب المجلس الأكبر من ستين عضوا ثلثان من الأعيان و ثلث من الوزراء يختارهم الباي في أول الأمر عند ابتداء خدمة المجلس بموافقة الوزراء.
و تسهيلا لعمله نص الفصل 61 على إنشاء مجلس مصغر يتكون من اثني عشرة عضوا للنظر في القضايا المحالة من مجلس التحقيق.
وتجمع المراجع على وجود شبه كبير بين المجلس الأكبر في اختصاصه القضائي و محكمة التعقيب وهو أمر واضح بالرجوع الى فصول دستور عهد الأمان ، حيث خصه المشرع بصلاحيات قضائية (جنائية) بأن جعل من مشمولات نظره البت في الشكايات المرفوعة من مجلس التحقيق » ليطابق الحكم على القانون » (الفصل 60)
هذا و إن استعمال عبارات النظر في مطابقة الحكم للقانون و الإشارة إلى آليات « إرجاع » القضية أمام مجلس التحقيق لإعادة النظر فيها و في صورة تشبثه بحكمه الأول الحكم فيها من طرف المجلس الأعلى بكافة أعضائه (الفصل 61) دليل على تبني مشرع 1861 نظام التعقيب.
غير أن هذه الرقابة المخولة للمجلس الأكبر ضمانا لحسن تطبيق القانون علاوة على كونها مقصورة على القضايا الجنائية حسبما ينص عليه الفصلان( 60 و61 ) فقد كانت كذلك محدودة في الزمن( 1861 – 1864 ) حيث لم تصمد الإصلاحات موضوع دستور عهد الأمان و القوانين المنبثقة عنه أمام ما
شاب الأوضاع العامة من اضطرابات و انتهى العمل بها إثر انتفاضة علي بن غذاهم و استرجع الباي كافة صلاحياته القضائية ليمارسها وفق ما كان عليه الوضع قبل تلك الإصلاحات.
لكن الوضع اختلف بانتصاب الحماية الفرنسية.
يمكن الحديث خلال هذه المرحلة عن ظهور مؤسسات قضائية تعنى بتقويم اختلال الأحكام و عدم مطابقتها للقانون نشأت بالنسبة للقضاء الشرعي بصدور مجلة الإجراءات الشرعية في 2 سبتمبر 1948 و بالنسبة للقضاء العدلي بصدور أمر 18 مارس 1896 المتعلق بتأسيس المحاكم التونسية.
مجلة الإجراءات الشرعية و إنشاء نظام مراقبة للأحكام
لم تكن هناك إجراءات تنظم عمل المحاكم الشرعية وهو ما كان يمثل تهديدا حقيقيا لحقوق المتقاضين حرص المشرع على تلافيه بسن مجلة الإجراءات الشرعية (بادرة من شيخ الإسلام محمد العزيز جعيط و المصلح مصطفى الكعاك) وهي مجلة تضمنت قواعد شبيهة بتلك المتعلقة بتنظيم الطعن بالتعقيب ( المادة 7) و أشارت إلى آليات الإحالة و ذلك بإرجاع القضية أمام الهيئة ذاتها التي أصدرت الحكم بتركيبة أخرى أو أمام هيئة أخرى مختصة (المادة 80).
أمر 18 مارس 1896 و تأسيس « مجلس التعقيب »
بعد إلغاء العمل بدستور عهد الأمان و ما تولد عنه من هياكل و مؤسسات قضائية جاء الأمر العلي المؤرخ في 18 مارس 1896 المتعلق بتأسيس محاكم تنظر في الأمور المدنية و الجنائية بصفاقس و قابس وقفصة يحمل نواة نشأة محكمة التعقيب بإحداث « مجلس تعقيب » وهو عبارة عن دائرة من دوائر مجلس الوزارة تقدم إليه مطالب التعقيب (الفصلان 34 و35) التي تسمى بمطالب الاستجلاب و كانت مهمة استجلاب القضايا و نشرها لدى مجلس الوزارة من خصائص الوزير الأكبر(الفصل 39) .
جاء الأمر العلي المؤرخ في 29 ديسمبر 1910 المتعلق بإصدار مجلة المرافعات المدنية ليقر « استجلاب » النوازل « للجنة التمييز » بطلب من الخصوم وهي التسمية الواردة بالفصل 105 من المجلة و مصطلح التمييز مرادف للتعقيب و المعنى النظر في صحة الأحكام و التمييز بين الصحيح منها والمختل.
و تضمنت مجلة المرافعات المدنية تنظيما أوليا للطعن من حيث أسبابه فجاء الفصل 103 منها ناصا في هذا الصدد على أنه يمكن أن يحال على الوزارة أصالة منها أو بطلب من الخصوم كل حكم و لو صار موضوعه متصفا باتصال القضاء به أو وقع تنفيذه و ذلك بسبب خروج النازلة عن نظر من حكم فيها أو لأجل إفراط في السلطة أو لخطا في تطبيق القانون أو أيضا:
كما حددت المجلة المذكورة الآجال و الإجراءات المتبعة أمام لجنة التمييز التي لم تخرج في تلك الفترة عن تبعية الإدارة و هيمنتها حسبما هو واضح من تركيبتها المتكونة من وزير القلم والاستشارة و من رئيس مجلس الوزارة.
تحت تأثير الحركة الإصلاحية اضطرت فرنسا لإدخال بعض الإصلاحات فأعلن الباي في 26 أفريل 1921 مبدأ التفريق بين السلطتين الإدارية و القضائية و صدر في نفس اليوم الأمر المتعلق بإحداث وزارة العدل و إدخال بعض التنقيحات على التشريع السابق و من تلك التعديلات تغيير تسمية لجنة التمييز التي صارت « لجنة القضايا » و تحوير تركيبتها بإسناد رئاستها الى قاضي تقع تسميته بأمر من الباي و من عضوين من رؤساء الدوائر لمجلس الوزارة (محكمة الاستئناف) و تمثيل النيابة العمومية من طرف مدير المصالح العدلية (قاضي) و عند حصول مانع لرئيس اللجنة أو في صورة فراغ الخطة يرأس اللجنة الأقدم من رؤساء الدوائر لمجلس الوزارة (محكمة الاستئناف) وإذا تغيب أحد الأعضاء فان النصاب يكتمل برئيس مجلس الدريبة و إلا كاهية رئيس من مجلس الوزارة أو من الدريبة ثم عند الحاجة بعضو من مجلس الوزارة.
و يمكن القول تأسيسا على ذلك أن أهمية التغييرات الواقع إدخالها على التشريع السابق تجسم الاتجاه نحو نظام التعقيب دون إرسائه بصورة فعلية و قانونية لأسباب سياسية لأن مشرع الاستعمار لم يكن يرغب في أن تضطلع المحاكم التونسية بدور هام في الوقت الذي كانت تتسع فيه صلاحيات المحاكم الفرنسية و يقوى نفوذها. و تغير الوضع بحصول البلاد على الاستقلال.
بطلوع فجر الاستقلال شهد قضاء التعقيب نهضة هامة بفضل المؤسسات التي أنشأها المشرع والتعديلات التي أدخلها على النصوص و يمكن الحديث عن المكاسب التي ظفرت بها مؤسسة التعقيب من خلال توحيد القضاء و تونسته بموجب أمر 3 أوت 1956 و اتفاقية 9 مارس 1957 في مرحلة أولى و صدور مجلة المرافعات المدنية والتجارية في 5 أكتوبر 1959 في مرحلة ثانية.
أمر 3 أوت 1956 و اتفاقية 9 مارس
ما إن تم الاستقلال في 20 مارس 1956 حتى سارعت الدولة إلى إنشاء المؤسسات التي تتطلبها مسيرة النهوض بالبلاد و كان جهاز القضاء أول من حظي باهتمام الدولة و عنايتها فجاء أمر 3 أوت 1956 ليوحد القضاء و يدعم المؤسسات القضائية بإدماج المحاكم الشرعية في نظام المحاكم العدلية حتى تم بموجب اتفاقية 9مارس 1957 إلغاء المحاكم الفرنسية و إحالة صلاحياتها الى المحاكم التونسية بداية من 01 جويلية 1957 وتم في هذا الإطار تخلي محكمة التعقيب الفرنسية لفائدة محكمة التعقيب التونسية عن المطالب المرفوعة ضد الأحكام الصادرة عن المحاكم الفرنسية بالبلاد التونسية (المادة 5)¹¹. كما تم بموجب القانون المؤرخ في 27 سبتمبر 1957 إلغاء محكمة الأحبار في غرة أكتوبر من نفس السنة وكان ذلك اليوم شاهدا على بسط القضاء التونسي نفوذه على كامل البلاد بإتمام توحيد المؤسسات القضائية و تونستها فتخلصت محكمة التعقيب نهائيا من عهد ظلت فيه متخفية تحت تسمية المجالس و اللجان المختلفة و نالت في غمرة الإصلاحات الواقع إدخالها على الهياكل القضائية قسطا وافرا من اهتمام المشرع فاستكملت بموجب أمر 3 أوت 1956 مقومات استقلالها وسيادتها.
و ما تخصيصها ببناية مستقلة كانت تأوي في العهد السابق كتابة الدولة للعدل و فك اندماجها مع المحاكم الأخرى إلا دليل على المكانة التي تبوأتها في نظر الحكومة و الدور الهام الذي قرر مشرع الاستقلال إسناده لها فعرفت محكمة التعقيب نظام تعدد الدوائر الذي لم يكن معمولا به في التشريع السابق.
و اقتضى تنظيمها الحديث أن تتركب من جهاز للقضاء و جهاز للنيابة العامة و جهاز إداري (كتابة المحكمة).
و حدد إطارها خلال العشرية الأولى على النحو التالي :
و تعقد الدوائر الثلاثة جلساتها أسبوعيا فيما تعقد دائرة الرئيس الأول جلسة واحدة كل شهر و لا تتقيد بنوع معين من القضايا و تنظر في المدنية منها و الجزائية.
مهما كانت أهمية الإصلاحات الواقع اتخاذها و الإنجازات الواقع تحقيقها فإن قانون التعقيب لم تتبلور ملامحه إلا بصدور مجلة المرافعات المدنية والتجارية في 5 أكتوبر 1959 و كانت المرحلة الفاصلة بين صدور أمر 3 أوت 1956 و صدور مجلة المرافعات المدنية والتجارية مرحلة انتقالية تجسم فيها فقط الكيان المادي و القانوني لمحكمة التعقيب.
و بصدور المجلة المذكورة خصص المشرع لها ما يزيد عن العشرين فصلا بدد بها اللبس الذي كان يكتنف طبيعة الطعن أمامها و زال الغموض و الخلط بين القانون والواقع في عملها فتحددت ملامح الطعن بما تضمنه الفصل 175 من هذه المجلة من أسباب الطعن بالتعقيب حددها على وجه الحصر في سبع حالات تمت صياغتها في شكل جديد و اختفت منها الأسباب الواردة بالفصل 103 من المجلة الأولى للمرافعات المدنية موضوع الفقرات 4 و5 و6 المتعلقة بوقوع خديعة من الخصوم أثناء نشر القضية و ظهور زور الحجج التي انبنى عليها الحكم و الحصول على حجج قاطعة منعت عن الطالب بفعل خصمه، وعهد بالنظر فيها إلى نفس المحكمة المطعون في حكمها و أفردت بباب خاص من المجلة تحت عنوان « التماس إعادة النظر » كما ألغي السبب موضوع الفقرة الأولى المأخوذ من » الغلط البين » الذي كان محل جدل و انتقاد لما أثاره من لبس و غموض حول طبيعة ومفهوم الطعن بالتعقيب لتعلقه بالواقع وهو ما لا يفترض تصوره في مثل هذا الطعن- غير أن تنقيح المجلة عام 1986 أعاد هذا السبب للظهور لكن في صيغة جديدة و بتغيير في ماهيته.
و تبلورت بجلاء مهام محكمة التعقيب و تدعم كذلك دورها بصدور مجلة الإجراءات الجنائية في 24 أوت 1968 التي رتبت لها اختصاصا في المادة الجزائية موازيا لاختصاصها في المادة المدنية و توجدت بذلك كافة الأسباب والظروف لظهور محكمة التعقيب على هيئتها العصرية كمحكمة قانون تعنى بمراقبة الأحكام و حسن تأويل و تطبيق القانون و تبوأت المكانة الجديرة بالدور الذي تضطلع به في قمة الهرم القضائي